فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا في قِرْطَاسٍ}.
يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة {وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم} الخ، وما بينهما جملًا تعلّقت بالجملة الأولى على طريقة الاعتراض، فلمّا ذكر الآيات في الجملة الأولى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضحَ الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن ينزّل الله عليه كتابًا من السماء على صورة الكتب المتعارفة، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لمَّا آمنوا ولادّعوا أنّ ذلك الكتاب سحر.
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير {كذّبوا} في قوله: {فقد كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم} أي أنكروا كون القرآن من عند الله، وكونه آية على صدق الرول، وزعموا أنّه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء، فإنّهم قالوا: {لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} وقالوا: {حتى تنزّل علينا كتابًا نقرؤه} فكان قوله: {فقد كذّبوا بالحقّ لما جاءهم} مشتملًا بالإجمال على أقوالهم فصحّ مجيء الحال منه.
وما بينهما اعتراض أيضًا.
وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفرًا أم رسالة، وعلى الثاني فالمراد بكتاببٍ سفرٌ أي مثل التوراة.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لا محالة لأنّ كلّ ينزل من القرآن موجّه إليه لأنّه المبلّغ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الأنتقال.
وليس يلزم أن يكون المراد كتابًا فيه تصديقه بل أعمّ من ذلك.
وقوله: {في قرطاس} صفة لكتاب، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه.
والقرطاس بكسر القاف على الفصيح، ونقل ضمّ القاف وهو ضعيف.
وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رَقّ ومن بَرْدى ومن كاغد، ولا يختصّ بما كان من كاغد بل يسمّى قرطاسًا ما كان من رقّ.
ومن النّاس من زعم أنّه لا يقال قرطاس إلاّ لما كان مكتوبًا وإلاّ سمّي طَرسًا، ولم يصحّ.
وسمّى العرب الأديم الذي يجعل غرضًا لمتعلّم الرمي قرطاسًا فقالوا: سَدّد القرطاس، أي سدّد رميه.
قال الجواليقي: القرطاس تكلّموا به قديمًا ويقال: إنّ أصله غير عربي.
ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل.
وقال: كان معرّبًا فلعلّه معرّب عن الرومية، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم (كارتا).
وقوله: {فَلَمسوه} عطف على {نزّلنا}.
واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة، ومن برودة أو حرارة، أو نحو ذلك.
فقوله: {بأيديهم} تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازًا في التأمّل، كما في قوله تعالى: {وإنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئَت حرسًا شديدًا وشهبًا}، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب، وللتمهيد لقوله: {لقال الذين كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين} لأنّ المظاهر السحرية تخيّلات لا تلمس.
وجاء قوله: {الذين كفروا} دون أن يقول: لقالوا، كما قال: {فلمسوه} إظهارًا في مقام الإضمار لقصد تسجيل أنّ دافعهم إلى هذا التعنّت هو الكفر، لأنّ الموصول يؤذن بالتعليل.
ومعنى: {إن هذا إلاّ سحر مبين} أنّهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم.
وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلّق بالمعاذير الكاذبة.
والمبين: البيّن الواضح، مشتقّ من (أبان) مرادف (بان).
وتقدّم معنى السحر عند قوله تعالى: {يعلّمون الناس السحر} في سورة البقرة (102). اهـ.

.قال الفخر:

بيّن الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به، بل حملوه على أنه سحر ومخرقة، والمراد من قوله: {فِى قِرْطَاسٍ} أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة، فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانًا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر.
فإن قيل: ظهور الكتاب ونزوله من السماء هل هو من باب المعجزات أم لا، فإن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكارهم لدلالته على النبوّة منكرًا، ولا يجوز أن يقال: أنه من باب المعجزات لأن الملك يقدر على إنزاله من السماء، وقبل الإيمان بصدق الأنبياء والرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة، وقبل الإيمان بالرسل، لا شك أنا نجوز أن يكون نزول ذلك الكتاب من السماء من قبل بعض الجن والشياطين، أو من قبل بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم، وإذا كان هذا التجويز قائمًا فقد خرج نزول الكتاب من السماء عن كونه دليلًا على الصدق.
قلنا: ليس المقصود ما ذكرتم، بل المقصود أنهم إذا رأوه بقوا شاكين فيه، وقالوا: إنما سكرت أبصارنا، فإذا لمسوه بأيديهم فقد يقوى الادراك البصري بالادراك اللمسي، وبلغ الغاية في الظهور والقوة، ثم هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة، فهذا هو المقصود من الآية لا ما ذكرتم والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قال القاضي: دلت هذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يمنع العبد لطفًا.
علم أنه لو فعله لآمن عنده لأنه بيّن أنه إنما لا ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول، ولا يجوز أن يخبر بذلك إلا والمعلوم أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة فثبت بهذا وجوب اللطف، ولقائل أن يقول: أن قوله لو أنزل الله عليهم هذا الكتاب لقالوا هذا القول لا يدل على أنه تعالى ينزله عليهم، لو لم يقولوا هذا القول إلا على سبيل دليل الخطاب، وهو عنده ليس بحجة، وأيضًا فليس كل مما فعله الله وجب عليه ذلك، وهذه الآية إن دلّت فإنما تدل على الوقوع لا على وجوب الوقوع والله أعلم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}.
هذا الكتاب- القرآن- لو نزل إلى هؤلاء المكذبين مكتوبًا في ورق من المحس المشاهد فلمسوه بأيديهم لقالوا ما قاله كل مكذب، إنه سحر ظاهر. وقد طالب المكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء ليقرأوه كشرط من ضمن شروط أخرى قال عنها الحق مصورًا جحودهم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السماء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 90- 93].
فبعد أن وضح لهم إعجاز القرآن حاولوا زورًا، واقترحوا من الآيات ليؤمنوا، كان يفجر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ينبوعًا في أرض مكة لا ينقطع ماؤه، أو يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بستان من نخيل وعنب. تتخلله الأنهار، أو أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنزل السماء عليهم قطعًا كعذاب شديد، أو أن يتجسد لهم الله والملائكة ليَروْهم رأي العين، أو أن يكون لرسول الله بيت من ذهب مزخرف، أو أن يصعد إلى السماء ويأتيهم بكتاب من الله يقرر صدق رسالته، ولكن الله برحمته واتساع حنانه ينزه ذاته أن يتحكم فيه أحد أو أن يشاركه في قدرته فيعلن لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 93].
لأن الذي يبعث الآيات هو رب العالمين، ولا أحد يجرؤ أن يفرض على الله آياته. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو مُستَقْبِل لآيات الله لا مقترح للآيات، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن من يقترح على الله آية ثم يأتي فيكذب بها يصيبه ويناله الهلاك، هذه سنة الله، ورسول الله يعلم أنه النبي الخاتم؛ لذلك لن يطلب أي آية من الله حتى لا ينزل عقاب الله من بعدها إن كذبوا بها. ويبلغ الحق رسوله عتو المتجبرين المنكرين واستكبارهم. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}.
الحق يعلم أن قلوب بعض المنكرين قد صارت غفلًا لا يدخلها الإيمان ولا يخرج منها الباطل- كما أراد هو لهم- فلو نزَّل إليهم كتابًا في قرطاس ليكون في مجال رؤية العين ولمسوه بأيديهم فلن يؤمنوا. ويأتي أمر لمس الكتاب بالأيدي؛ لأن اللمس هو الحاسة التي يشترك فيها الجميع حتى الأعمى منهم، وبرغم ذلك فسيكذبون قائلين: {إِنْ هاذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ومثل هذا الرد لا ينبع عن عقل أو تدبر أو حكمة.
ولا يتناسب مع القوم الذين عُرفوا بالبلاغة والفصاحة، وبحسن القول وصياغته؛ لأن السحر إنما يغير من رؤية الناس للواقع، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم متهمًا بالسحر منهم فلماذا لم يسحرهم هم، ولماذا استعصموا هم بالذات على السحر؟ والمسحور ليس له عمل ولا إرادة مع الساحر، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم ساحرًا لصنع من السحر ما يجعلهم يؤمنون.
إن من العجيب وهم أبصر الناس بفن القول، وهم أهل النبوغ في الأداء، ويعرفون القول الفصل والرأي الصحيح ويميزون بين فنون القول: خطابةً، وكتابةً، ونثرًا، وشعرًا، والقول المسجوع، والقول المرسل، من العجيب أنهم يقفون أمام معجزة القرآن مبهوتين لا يعرفون من أمرهم رشدًا، فمرة يقولون إنه سحر، ومرة يقولون: إنه كلام كهنة، وثالثة يقولون: إنه كلام مجنون.
والقرآن ليس بسحر، لأنه يملك من البيان ما يملكون وفوق ما يملكون ويحسنون، ولا يفعل رسول الله معهم ما يجعلهم يؤمنون على الرغم منهم، وليس القرآن كذلك بكلام كهنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ بينهم ويعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يتلق علمًا من أحد، فضلا عن أن كلام الكهان له سمت خاص وسجع معروف، والقرآن ليس كذلك. ويعلمون أنه كلام رجل عاقل، فكلام المجنون لا ينسجم مع بعضه، وها هوذا الحق يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 2- 4].
وقد أعد الله رسوله ليستقبل النبوة بقوة الفعل، لا بسفه الرأي، وله في إبلاغ رسالة ربه ثوابٌ لا مقطوع ولا ممنوع، وهو على الخُلق العظيم. والخُلُقُ العظيم- كما نعلم- هو استقبال الأحداث بملكات متساوية وليست متعارضة ولا يملك ذلك إلا عاقل. وقد شهدوا بخُلُق محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يأتي هذا الخلق العظيم من مجنون؟ وكيف يصدر السلوك المتصف بالسلامة والصلاح والخير من مجنون؟ كانت- إذن- كل اتهاماتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبع من إصرارهم على الكفر، لا من واقع لمسوه، فكل ما قالوه في رسول الله هم أول الناس الذين شهدوا عكسه ولمسوا نقيضه.
وجاءوا- إصرارًا على الكفر- يطلبون أية أخرى: {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ...}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}.
يُخْبِرُ عن كمالِ قدرته في إبداء ما يريده بعد ما قَضَى لهم الضلالَ، فلو أشهدهم كُلَّ دليل، وأوْضَحَ لهم كل سبيل ما ازدادوا إلاّ تماديًا في الضلال والنفرة، وانهماكًا في الجهل والغيّ. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} أي: مكتوبًا في ورق: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي: فمسوه {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا} أي: ليس هذا المعظم بهذه الوجوه الدالة على أنه لا يكون إلا من الله: {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} تعنتًا وعنادًا، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا، ولأنه يتقدمه الإبصار، حيث لا مانع. وتقييده بالأيدي لرفع التجوز، فإنه قد يتجوز به للفحص، كقوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء} [الجن: 8]- أفاده البيضاوي.
قال الناصر في الانتصاف: والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم، تحقيق القراءة على قرب. أي: فقرؤوه وهو في أيديهم، لا بعيد عنهم، لما آمنوا.
وقال ابن كثير: وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن مكابرتهم للمحسوسات: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14- 15]. ولقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]. اهـ.